خبر الان

عندما يخدعنا الضوء: السياسة الرقمية بين الحقيقة والوهم

بقلم: لبنى عويضة…

خاص: جريدة الرقيب الالكترونية

لم يعُد المواطن في عصرنا بحاجة إلى تصفّح الصحف الورقية أو حضور الاجتماعات السياسية المملة لفهم ما يدور في بلده. كل ما عليه فعله هو فتح هاتفه الذكي ليصبح جزءًا من “العرض الكبير” الذي تقدمه السياسة الرقمية، حيث تُعرض القضايا الوطنية وكأنها حلقات متواصلة من مسلسل درامي.

من الهاشتاغات التي تصدح كالأناشيد، إلى مقاطع الفيديو الساخرة التي تقتنص اللحظة، لم تعد السياسة ممارسةً فعليةً بقدر ما أصبحت منافسة في مهارات التصوير والإلقاء. لكن يبقى السؤال: هل نحن أمام تغيير حقيقي، أم مجرد عرض استعراضي يبقينا في مقاعد المتفرجين؟

السياسة الرقمية: المواطن كجمهور دائم

لم يعد البرلمان الحقيقي هو مركز النقاشات الساخنة، فقد انتقلت المنصة إلى “فيسبوك”، بينما أصبح “تويتر” ساحة الاعتراض الكبرى. ولكن بدلًا من التصويت الفعلي أو الاحتجاج الميداني، يكتفي المواطن اليوم بالضغط على زر “الإعجاب”، إعادة التغريد، أو كتابة تعليق غاضب سرعان ما يتبخر في زحمة المنشورات الأخرى.

يبدو أن المواطن قد تحوّل إلى متابع مخلص لـ”برنامج الواقع السياسي”، يتفاعل مع المشاهد الحماسية ثم ينام مطمئنًا لأنه “شارك في القضية”. المشهد الرقمي لا يكتفي بجعل المواطن جمهورًا، بل يُدخله في دوامة استهلاكية تشغله عن الفعل الحقيقي.

السياسة كمحتوى سريع الاستهلاك

في الماضي، كانت السياسة تعني المواقف الثابتة والمشاركة الميدانية التي تصنع التاريخ. أما اليوم، فقد باتت تتلخّص في تغريدات قصيرة، هاشتاغات صاخبة، ومقاطع فيديو لا تتجاوز دقيقة.

هذا التحوّل يبدو للوهلة الأولى فرصة لتعزيز الوعي السياسي، لكنه في الحقيقة يدفع نحو استهلاك سريع للأحداث دون فهم عميق لجوهرها. المواطن العادي بات أشبه بمشاهد متلهّف للعرض السياسي، يتابع المشهد بشغف دون أن يُدرك أنه فقد دوره كمُشارك حقيقي في صناعته.

الخوارزميات و”فقاعات التفكير”

في هذا المسرح الرقمي، تقودنا الخوارزميات كما لو كانت مخرجًا ماهرًا في خلفية العرض. هذه الخوارزميات تُبقي المستخدم محاصرًا داخل “فقاعته” الفكرية، حيث يشاهد محتوى يعزّز قناعاته السابقة، ويبعده عن النقاشات الحقيقية التي تتطلب مواجهة الأفكار المختلفة.

النتيجة؟ جمهور سياسي يقتات على محتوى مُعلّب يتكرر بصيغ مختلفة، بينما تضعف النقاشات الجادة، ويزداد الانقسام بين الفرقاء.

السياسة الرقمية: منصة للفرص أم أداة للاستغلال؟

على الرغم من تحدياتها، لا يمكننا إنكار أن السياسة الرقمية فتحت أبوابًا جديدة. فقد منحت السياسيين الشباب فرصة للوصول إلى جمهور عريض، مستخدمين لغة بسيطة ومباشرة تقترب من الناس وتثير تفاعلهم.

لكن التحدي الحقيقي يكمن هنا: هل يستطيع هؤلاء السياسيون تجاوز مرحلة التأثير الرقمي إلى العمل الميداني الفعلي؟ أم أن منصاتهم ستبقى مجرد مساحات لإبهار الجمهور دون ترجمة الوعود إلى أفعال؟

نحو مواطن رقمي فاعل

التحدي الأكبر اليوم هو إعادة صياغة دور المواطن الرقمي من مجرد متابع للمحتوى السياسي إلى شريك فعّال في صناعة القرار. هذا يتطلب رؤية أعمق لكيفية استخدام الأدوات الرقمية كوسيلة للضغط الجماعي، تنظيم الحملات الميدانية، والتواصل المباشر مع صانعي القرار.

السياسة الرقمية ليست عدوًا، لكنها أيضًا ليست بديلًا عن الفعل الميداني. إنها أداة، وعلينا أن نقرر كيف نستخدمها: هل نستهلكها دون وعي أم نحولها إلى سلاح في معركة التغيير الحقيقي؟

استعادة الفعل السياسي: أين نحن اليوم؟

السياسة الرقمية، كسيف ذي حدين، تحمل إمكانات هائلة لتحفيز الوعي وبناء قادة المستقبل. لكنها في الوقت نفسه قد تصبح فخًا للاستهلاك السطحي الذي يُضعف جوهر العمل السياسي.

اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، على كل فرد أن يطرح هذا السؤال الجوهري: هل أنا مجرد متابع يستمتع بالمشهد، أم صانع تغيير يرفض أن يظل أسير الضوء الخادع؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى