
كتب ناجي علي امهز، أكثر من مليون ونصف المليون إنسان، كشفوا خذلان الحلفاء، بكاء الحاج حسن والمقداد، ومشهد انتصار نصرالله.

البداية “هذا التشييع العظيم لم يكن مجرد وداع للأمينين العامين السابقين لحزب الله حسن نصر الله وهاشم صفي الدين، بل كان ميزانًا كشف معادن الحلفاء، وفضح حقيقة المواقف. فقد أظهر من كان صادقًا في حبّه وولائه للسيّد نصر الله، ومن بقي ثابتًا معه حتى اللحظة الأخيرة، يتجرّع الحزن بصدق، كما كشف من كان يخفي خلف كلماته وتحالفاته نفاقًا زائفًا، ويتخذ القرب من السيّد نصر الله مجرّد وسيلة لتحقيق غاياته، فلم يلبث أن تخلّى عنه في أول اختبار للحقيقة.
في هذا التشييع، رأينا العيون التي لم تخجل من دموعها، والقلوب التي انكسرت بصدق على رحيل القائد، ورأينا أيضًا العيون الجافة التي لم يرفّ لها جفن، والوجوه التي حاولت أن تخفي ارتباكها حين أدركت أن لحظة الحق قد حلّت، وأن المزايدات لم تعد تجدي نفعًا.
إنه يوم سقطت فيه الأقنعة، وتلاشى الضباب، وظهر من كان وفيًّا لا يغيّره الزمن، ومن كان متلوّنًا، يبدّل ولاءه كما يبدّل قناعه، فلا يبقى له من أثر إلا صفحات النسيان.
بالأمس، أدرك العالم العربي قوّته، كما تجلّى لإسرائيل مدى ضعفها. أدرك الزعماء العرب السرّ الكبير للسيّد نصر الله… لماذا تبكيه الرجال والنساء، وحتى الأطفال؟
لم تفلح المحاولات الإعلامية والسياسية في تشويه صورة الشهيد نصر الله. من أحبّه، بكى عليه، ومن خاصمه، قال: “كان قائدًا ومحاربًا عظيمًا.” وحتى من عاداه، وقف أمام الحقيقة الصلبة التي فرضها مشهد التشييع المهيب.
بالأمس، فهمت إسرائيل أنها أمام واقع جديد: الحبّ الجماهيري الجارف لرمز المقاومة يكشف عمق التحولات السياسية والشعبية في المنطقة. هذا الإدراك، وإن جاء متأخرًا، يحمل دلالات استراتيجية تتجاوز اللحظة الآنية.
فهم الزعماء العرب المعادلة بوضوح:
إذا أردت أن تضعف موقفك أمام شعبك، وتصطدم بوعي التاريخ، فصافح إسرائيل وسالمها.
أما إذا أردت أن يحترمك شعبك، ويسجل اسمك في صفحات التاريخ بمداد العزة، فتمسّك بقضية فلسطين، وستجد نفسك في صف القادة الذين لا يزول أثرهم.
لقد كشف تشييع نصر الله زيف الانقسام العربي، وأظهر أن الشعوب العربية رغم كل الخلافات لا تزال متعطّشة للوحدة. كما أنه أثبت أن فكرة المقاومة أعمق من أن تُختزل في إطار سياسي أو حزبي.
في مراكز الدراسات الغربية، تسارعت التحليلات، وتردد سؤال جوهري: “هل نحن أمام نقطة تحول في توازنات المنطقة؟” لقد أخطأت إسرائيل حين راهنت على إضعاف المقاومة، كما أخطأت حين تجاهلت تداعيات اغتيال نصر الله، وكما أخطأت حكومتها عندما دفعت الفلسطينيين إلى حافة الانفجار في 7 تشرين الأول 2023.
أكثر من مليون ونصف المليون شخص شيّعوا نصر الله في لبنان، ولو سُمح للحدود العربية بالانفتاح، لربما شهدنا مشهدًا أكثر اتساعًا، يعكس التأييد الواسع للمقاومة. ملايين الفلسطينيين شعروا بالخسارة، وعشرات الملايين حول العالم رأوا في رحيل نصر الله لحظة فاصلة في مسار الصراع.
لبنان كان على موعد مع واحدة من أكبر الجنازات الشعبية في تاريخه.
لا احد يصدق مقدار الحزن والم الفراق في وجوه وعيون وصمت المتواجدين.
“لم يستطع أحد أن يتمالك نفسه… وكأن الأحاسيس تحررت من قيد المناصب، ومن نظرية العمر والرجولة. جميعنا كنا نبكي بحرقة، بصوت مرتفع كالأطفال.
نعم، نبكي ونبكي… النائبان حسين الحاج حسن وعلي المقداد كانا يجلسان خلفي، يهزّهما البكاء، ودموعهما تنهمر بلا توقف. إبراهيم الحلبي كذلك، لم يستطع حبس حزنه. حتى المشرفون والتشريفات، وحتى المرافقون الذين اعتادوا الصمود أمام كل شيء، أخذهم البكاء، اجتاحهم الحزن العميق.
كنا جميعًا كالأيتام… نبكي بحرقة، ونرثي في غياب الأب، والأخ، والصديق.”
رأينا الإيرانيين يذرفون الدموع، وشاهدنا الحزن في عيون الباكستانيين والأفارقة، وحتى بعض الغربيين المتواجدين الذين تابعوا الحدث باهتمام. كان الحزن مشتركًا، والموقف واضحًا.
حين حلّقت الطائرات الحربية الإسرائيلية على علوّ منخفض فوق التشييع، ارتفعت قبضات المشيعين بلا شعور، تهتف: “لبيك يا نصر الله! الموت لإسرائيل!” ربما لم تدرك إسرائيل أن تهديدها لمن يفتخرون بالشهادة هو معادلة لن تستطيع فكّ رموزها.
من راهن على نهاية حزب الله أو انحسار دوره، أخطأ التقدير. فقد أظهرت هذه اللحظة التاريخية حجم التأييد الشعبي العابر للحدود. القيادة الجديدة لحزب الله تحمل اليوم أمانة ثقيلة، بعد أن بايعه ملايين الأشخاص بالأمس، ما يعني أن دوره المستقبلي سيكون أكثر تعقيدًا وتأثيرًا.
حزب الله لم يعد مجرّد قوة محلية، بل أصبح حالة سياسية وشعبية تتجاوز الجغرافيا اللبنانية. ربما لا يوجد زعيم عربي اليوم، وهو في منصبه، يملك عُشر ما يملكه حزب الله من التأييد الشعبي العابر للأوطان.
حين كتب جبران خليل جبران، وغنّت فيروز ووديع الصافي للبنان، رأى البعض في ذلك مبالغة في تمجيده… ولكن بالأمس، رأى العالم كم أن لبنان عظيم، وكيف أن نصر الله كان أحد عظمائه.
الختام الشكر للقاء الاعلامي الوطني خاصة سمير حسن وعماد جابر وعلي احمد، وكل من ساهم في انجاح هذا التشييع التاريخي والاستثنائي في كافة ابعاده الوطنية والقومية والانسانية.
