اخبار عالميةاخبار ومتفرقاتاقلام اجتماعية وادبية

رنا الساحلي… التي استشهدت مع الحاج محمد عفيف

*رنا الساحلي… التي استشهدت مع الحاج محمد عفيف*

*بقلم: ناجي علي أمـهز*

أكتب الآن للتاريخ. ولعلّ قارئاً بعد ألف عام سيمرّ على هذه الكلمات، فيدرك أنّ ما نخطّه بأقلامنا لا يُمحى، بل يظلّ محفوظاً في تلك “القارة السابعة” التي لا تنالها يد النسيان.

عرفت الحاج محمد عفيف، رضوان الله عليه، في عام 2021. ولم تكن معرفتي برجال حزب الله كثيرة، مع أنني واحد من أبناء الطائفة. ولكن الحاج، بما هو ابن بيت عريق وصاحب أفق رحب، طلب أن يلتقيني. كان قريباً من الشهيد المقدّس السيد حسن نصرالله، وقد سمع عني من أصدقاء مسيحيين لهم موقع ووزن. دهش يوم لقائنا الأول أن لا أحد من أبناء طائفتي حدّثه عني، وقال لي: “أريد أن تجمع مقالاتك عن الطائفة، كلّها، حتى تلك التي تنتقدها، وأسلمني إياها”.

جمعت له ما أراد. وبعد أيام، دعاني إلى كوب شاي. كان النقاش طويلاً وصريحاً. فهمت منه الكثير، وفهم هو الكثير عني. أدركنا معاً كيف كان بعض “النسّاخ” يتباهون بأفكاري بعدما محوا اسمي. وأدركت كيف تُصنع الغيابات أحياناً في المشهد الشيعي.

كان الحاج محمد عفيف أرستقراطياً في سلوكه، محنّكاً، لبيباً، دبلوماسياً، يفكر بميزان الذهب حين يتعامل مع النخب. لم ينسَ أن يقول أمام حشد من الإعلاميين: “هذه كلمتي، حررها بأسلوبك”. كأنه أراد أن يقدمني للآخرين من خلاله هو، لا من خلالي أنا. زارني في منزلي ثلاث مرات، وأقام بيننا صداقة بقيت حتى لحظة استشهاده. لحظة كانت الدموع دماً، وكان الحزن فاجعة لا تعوّض.

ولا أنسى أنّني كتبت يوماً عن أحد الإعلاميين، فقامت الدنيا ولم تقعد. حتى الحاج محمد عفيف، رضوان الله تعالى عليه، عاتبني في تلك الفترة وانتقد ما كتبت. لكن لم يمضِ أسبوع واحد، حتى رنّ هاتفي وكان الحاج محمد عفيف، وصوت لن أنساه ما حييت. وضع الاتصال على مكبّر الصوت ليصلني الكلام بوضوح.

أنا الذي أعرف معظم الشخصيات اللبنانية الرسمية والحزبية والدينية، وأكنّ لها الاحترام جميعاً، شعرت يومها أنّني أستمع إلى العالم كلّه في صوت واحد. قال لي ذلك الصوت:
“أتمنى عليك ألّا تتوقف أو تتأثر بموجة الانتقادات السابقة. أنت أحد الأقلام التي تعبّر بوعي ومسؤولية، وتعكس الواقع بشفافية ومنهجية. اكتب كل ما تريد، ومن دون حدود… وأنا أتابع. والسلام”.

وقد كُتبت هذه الشهادة في حياة الحاج محمد عفيف والسيد حسن نصرالله، رضوان الله تعالى عليهما، بتاريخ 20-1-2024.

لم يكن الحاج محمد عفيف مجرد إعلامي للحزب. كان مدرسة في أنصع معاني السياسة والإعلام. كان يعرف أن الوعي يُصنع في العقول، وأن الكلمة أمانة، وأن احترام الراي الاخر هو السبيل إلى حماية الجماعة.

هذه المقدمة الطويلة لم تُكتب من أجل السرد الشخصي فحسب، بل لتكشف كيف كانت العلاقات الإعلامية تُبنى مع النخب، بالكثير من الجهد، وبالاحترام الذي لا يتبدّد، وبالتقدير الذي لا يُشترى، وبالحرص الذي يحوّل اللقاءات إلى جسور ثقة. لقد كان التواصل آنذاك مدرسة في الرقي والوعي، حيث لا يُترك تفصيل بلا متابعة، ولا يُهمل رأي مهما كان مختلفاً، فكانت العلاقة أكبر من مصلحة آنية، وأعمق من مجرد تواصل وظيفي؛ كانت شراكة في الرؤية، واحتضاناً للفكر، واعترافاً بقيمة الكلمة.

بعد رحيل الحاج محمد عفيف، التقيت خلفه الدكتور يوسف الزين في زيارة قصيرة لم تتجاوز الدقائق. وبينما كنت أهمّ بالخروج من مكتبه، صادفت الحاجة رنا الساحلي.

كانت صورة حيّة لامرأة عرفناها في الحرب رمزاً للصلابة، حتى لقّبناها بـ”المرأة الحديدية”. لم تكن تغلق هاتفها، ولم تتخلَّ عن موقعها تحت القصف والدمار، كأنها جبل لا تهزّه الطائرات ولا يلين أمام النار. عاشت اسابيع بين موتٍ يحدق بها كل لحظة، وخوفٍ صامت على عائلتها وأصدقائها الذين لم تعد تجرؤ أن تجلس بينهم إلى مائدة واحدة.

لكن يوم رأيتها، لم أرَ المرأة الحديدية. رأيت وجهاً شاحباً، كزنابق انحنى عودها بعد أن أرهقها الصقيع. كانت جناحاً مكسوراً، شهيدةً حيّة. هناك، في تلك اللحظة، أيقنت أنّ رنا الساحلي استشهدت يوم استشهد الحاج محمد عفيف، كما أيقنت أن أمّتنا العربية والإسلامية انكسرت يوم ارتقى السيد حسن نصرالله.

ولم يكن وجعها وجعَ فقدان السيد نصرالله والحاج عفيف وحدهما، بل وجع الغربة وكانها في عالم الثاني، كانت غريبة مع انها مازلت في موقعها لكن غريبة عن من حولها، غريبة في مكان شاركت بصناعته بنائه بوعيها وصدقها وشفافيتها واحترامها.

لم تستطيع ان تقول لي تفضل لاضيفك كما عادتها، فقد اصبحت غريبة في مكتب غريب.

حينها ادركت انها لن تكمل، واليوم خرجت رنا الساحلي التي عملت لسنوات طويلة في العلاقات الاعلامية حتى اضحت هي الجزء الثاني من هذا التاريخ في احد اهم المراكز في الطائفة الشيعية التي جمعت النخب ومن مختلف الطوائف.

يوما بعد يوم تكبر الخسارة، وما اخشاه ان تصبح الطائفة الشيعية جميعها تعيش الغربة في الوطن وربما حتى المنفى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى