مدينة الأنبياء … تكرار عبر الزمن لأسطورة شعب الله المختار.
«مدينة الأنبياء»… تكرار عبر الزمن لأسطورة شعب الله المختار
بقلم الكاتب: د. عبدالله سهر
نقلا عن موقع: alraimedia
في عام 1810، غزا الجيش الأميركي، بقيادة الكولونيل وليام هاريسون، الذي أصبح الرئيس التاسع عشر للولايات المتحدة لاحقاً في عام 1841، مدينة Prophetstown التي كانت تعود لقبيلة الشاوني Shawnee إحدى قبائل الهنود الحمر الشهيرة. هذه المدينة وبقيادة الزعيم تيكومسي Tecumseh كانت تقاوم الهيمنة الأميركية، وكانت تتجسد فيها أواخر ملاحم انتفاضات المواطنين الأصليين (الهنود الحمر) ضد هيمنة الرجل الأبيض.
الجيش الأميركي بقيادة هاريسون قام بغزو هذه المدينة مرتين وإحراقها ومن ثم ضمها لممتلكات المحتلين. وبعد ذلك التاريخ في عام 1871، قامت الحكومة الأميركية بإصدار تشريع يمنع عقد أي معاهدات مع الهنود الحمر لكونهم لا يمثلون كيانات مستقلة عن السيادة الأميركية! كما استصدر الكونغرس الأميركي قانوناً آخر في عام 1885، تحت اسم قانون الجرائم الأساسية، يمنح الحق للحكومة الأميركية بسط اختصاصها القضائي على الأراضي التي تعود ملكيتها للهنود الحمر، تحت ذريعة أنها تمتلك الحق لمحاكمة من يقوم بأي جريمة ومن أجل استقرار الأمن في تلك الأراضي!
وفي عام 1887، تم استكمال الاستحكام على أراضي الهنود الحمر من خلال قانون التخصيص General Allotment Act الذي تم بموجبه إعطاء الحق للرئيس الأميركي لتقطيع أراضي الهنود الحمر وتوزيعها لكل من يبلغ عمر 21 سنة. طبعاً هذا القانون تم تشريعه تحت ذريعة تحقيق العدالة للهنود الحمر أيضاً، لكنه في الحقيقة يهدف لتشجيع البؤساء والمحتاجين والمشردين والعملاء من الهنود الحمر لأن يجنحوا لبيع ما يتم تخصيصه لهم للمشترين البيض أو من الحكومة الأميركية ذاتها، حيث إن الأراضي في السابق كانت تعتبر ملكية جماعية للقبيلة ولا يمكن بيعها لأحد.
عندما اشتعلت الدعود المقدسة من قبل الأخ الأكبر للزعيم تيكومسي، وهو تينسكواتاوا Tenskwatawa، في مدينة الأنبياء وألهمت الكثير من الهنود الحمر بعودة جديدة تبعث فيهم روح التفاؤل بالعودة لحياتهم وأراضيهم قبل أن يسلبها منهم الرجل الأبيض، وبعدما استطاع الزعيم تيكومسي بتكوين محاربين أشداء حوله من أجل تحريرهم من هيمنة الرجل الأبيض، تحرك الكولونيل هاريسون وفعل ما فعل في مدينة الأنبياء المقدسة للهنود الحمر، وقتل لاحقاً زعيمهم وشردهم، وهكذا انطوت إحدى قصص مقاومة الهنود الحمر في كتب التاريخ وخزائن المتاحف، لتكون مجرد حكايات تروى للأجيال المتعاقبة.
من الواضح أن المحرك الديني المتعصب هو الذي كان يحرك الرجل الأبيض ضد الهنود الحمر سواء كان في عهد المتطهرين الأوائل الذين صاحبوا حملات الحكومة الإنكليزية، أم ممن أتى بعد الاستقلال في كنف الحكومة الأميركية التي كانت تدعي العلمانية. فالعقيدة العنصرية المتعصبة التي حملت المتطهرين على ظهر سفينة ميفلاور Mayflower للأراضي الأميركية، ومن لحق بهم، هذه العقيدة التي كانت تصور الأراضي الجديدة بأنها جنات عدن والأرض الموعودة، أو كما اطلق عليها حينها بـ«اسرائيل الجديدة»، كل تلك التسميات وغيرها متأصلة في الجذر الديني المتعصب، وأخذت دورها في التركيب الجيني للحكومة الأميركية حتى لو ادعت طبيعتها العلمانية. هذه الجينات هي التي أسست للتفوق العرقي، والذي منح بدوره الرجل الأبيض الحق في سحق الآخر وسلب أراضيه وقتله وطرده وحصاره وتشريده، وفرض القوانين عليه وتمزيق المعاهدات التي أبرمها معه من خلال مزامير مختلقة تبرر تمييز الشعوب والناس بحيث يكونون هم لوحدهم «شعب الله المختار» الذي يوضع كل شيء في خدمته.
وتكررت هذه الحادثة بوجوه جديدة على الرغم من تبدل الزمان والمكان. فالصهاينة الذين هاجروا من أوروبا أيضاً وسلبوا الأراضي الفلسطينية بدعم من بريطانيا وأميركا، كانوا يستندون إلى منطق أرض الميعاد لشعب الله المختار. هذا الحق المستند للمنطق الديني المتعصب كان مسوغاً كافياً كي يتم توظيفه للسلب والقتل والتشريد والحصار والظلم، واستصدار قوانين باسم الديموقراطية العلمانية مفادها شرعنة السلب والقتل والإقصاء والتهميش.
فلسطين أيضاً مدينة الأنبياء، والقدس عاصمتها، ففيها ولد الكثير من الأنبياء مثل يعقوب ويوسف وزكريا ويحيى واسحق، وموسى دفن فيها، وقد سكنها إبراهيم ولوط، وعرجَ إليها خاتم الأنبياء.
لذلك فعلى الرغم من إبرام المعاهدات مع الفلسطينيين، وعلى الرغم من القرارات الأممية التي صدرها مجلس الأمن بموافقة أميركا على عدم جواز ضم الأراضي المحتلة، وعلى الرغم من وضوح وثبات عدوانية القوات الصهيونية الوحشية في القتل والتجويع والتشريد والطرد والحصار والمجازر وجرائم الحرب، إلا إن التفوق العرقي الذي يرجع في جذره لنفس جينات من أتوا على ظهر سفينة مايفلور هي التي تتحدث عن حالها اليوم.
لقد استطاع الرئيس هاريسون تمزيق الهنود الحمر من جهة، والبريطانيون على الضفة الأخرى الذين كانوا يتحالفون مع قبائل الهنود الحمر ضد الأميركان قد منعوا القبائل الكبيرة الخمسة في تأييد الزعيم تيكومسي، لذلك تم انتهاء حقوق هذا الشعب وطي فصل الاستيلاء على أراضيه للأبد.
العرب اليوم أيضاً يواجهون مفترق الطرق ذاته (!)، فبعد أن شرعن ترامب احتلال القدس عبر نقل سفارة بلده اليها، وبعد أن فتح الرئيس بايدن الباب على مصراعيه لكي يقوم الصهاينة بحفل العشاء الأخير على جثث الفلسطينيين، بعد كل ذلك هنالك من يقف صامتاً أو راضياً على استحياء بما يفعل الصهاينة معتقدين أنهم ناجون منها، مثلهم مثل الهنود الحمر الذين خذلوا زعيمهم وشعب الشاوني العظيم، حيث كانوا يظنون أنهم ناجون منها، ولكن حقيقة الأمر أن الشيطان هو أنساهم أنفسهم فتم نسيانهم، فهل ستكون النهاية متماثلة؟ بالتأكيد لا… فالزمان والمكان والشعب مختلفون جداً ولن ينسوا مدينة الأنبياء.