فلسطين

اسماعيل هنية … شهيد الأمة

د. محمد البحيصي

رئيس جمعية الصداقة الفلسطينية – الإيرانية

ورث عن البحر عمقه وهدوءه ورحابته وثورته.. وهو ابن البحر.. ابن جورة عسقلان سيّدة البحار.. وابن مخيم الشاطئ الذي احتضن مراكب اللاجئين، وحفظ أهازيج الموج في ساعات الأصيل، وهو يحمل الصيادين يطاردون عين الشمس قبل انغماسها في جلال الزّرقة، وهيبة الغسق.. وفي تنفس الصباح يرجعون، وفي الضحى يرقّعون شباكهم في ظلال زنابق التلال..

واسماعيل الطفل في أزقّة المخيم تداهم عيناه جحافل الغرباء يزرعون الموت، ويسمّمون الهواء، ويطلقون النار على النوارس ويصفّدون الشطآن..

وينفتح الوعي مبكراً على الحزن والألم والقهر.. ويلجأ الفتى إلى بيت الله حيث تُوضع الأثقال وتُمسح الأحزان، وتُزال الهموم، وتتنزّل السكينة.. ويُعدّ الرجال..

وتنتفض غزّة.. لتصير بحجم فلسطين، بل بحجم الأمة..

ويدرك اسماعيل أنّ زواريب المخيم أوسع من هذي الأرض التي ضاقت على الفلسطيني، وأنّ ليل الوطن لنا نحن الفقراء حين نكون فدائيين..

وأنّ الشمس لنا، والقمر لنا، والبحر لنا، والقدس لنا، والزعتر والزيتون..

في غزّة ينمو الأطفال سريعاً، وكأنّ تحدي النكبة يلزمهم بالرفع وليس الكسر..

والثورة تجري في دمهم، تدفعهم ليكونوا الأميز..

“لن نعترف بإسرائيل”.. صارت أغنية تعزفها أوتار الأيدي المتوضئة بماء الحق، وكان لها استحقاق النور في أنفاق غزّة، إعداداً لليوم الموعود، وزاداً للسفر الصاعد للملكوت على أجنحة الياسين وعيّاش وعز الدين، والرّكب يطول، وتتسع الفكرة، ويأتي الدّور على القائد اسماعيل في الزمن الأقسى، عاصفة البحر التي ألفها كبحّار آتٍ من ماء الملح، كانت تعصف بفلسطين كل فلسطين، والقبطان لا ترهبه الريح، ولكن ما يشغله هو كيف يخلّص مركبه، حتى يوصله للشاطئ موفور الصيد..

وعلى كره منه يغادر القائد مخيمه في غزة، ويفارق معشوقه استجابة لتكليف الوقت الذي اقتضى ذلك الخروج، جمعاً للكلمة، ورأباً للصدع، وفتحاً للأبواب المغلقة، ورفعاً للحواجز والموانع، وتعزيزاً للعلاقات، وتأليفاً للقلوب، وتحصيناً للمقاومة، وسفيراً للمجاهدين، وصوتاً للمستضعفين.. فكان خروجه هجرة لله ورسوله، وللحق الذي تمثّله فلسطين، ومحطة رافعةً للفعل المقاوم، حيث استطاع ترميم علاقات الحركة مع قوى جبهات المقاومة، وفتح لها آفاقاً أوسع.. وهو ما تجلّى في “طوفان الأقصى” ذاك الإنجاز الإعجاز الذي كان الشهيد السعيد من أبرز عناوينه وشواهده، رغم بُعْد الشقّة، ووعورة الطريق، وسهام التشكيك، والطعن، وليِّ اللسان، وسوء الظن..

وتمكّن الشهيد من إدارة تداعيات “طوفان الأقصى” وحرب الإبادة على شعبه الفلسطيني باقتدار وحنكة دلّت على البصيرة والصبر والكفاءة، وكان الشهيد القائد أحرص القادة على أمرين: الحفاظ على المقاومة المدافعة عن شعبها وحقوقه، والتوحّد على برنامج المقاومة الشاملة، وظلّ ثابتاً على هذا حتى أتاه اليقين في طهران ليكون مجمعاً للبحرين، ومحطّةً توحّد الأمّة..

سلامٌ عليك أبا العبد .. شهيد الأمة..

وسلامٌ على الشهداء..

وإنّا لله وإنّا إليه راجعون..

مقالات ذات صلة

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x