الضاحية… وطنٌ يبكيه القلب في غربته”
د. بتول عرندس
“أنا امرأة ضاعت مني الشوارع التي أحببتها، كل شارع فيها كان لي ملاذًا وملجأ. في طفولتي، كنت أتسلق درجات الطفولة في برج البراجنة، أركض ضاحكة في أزقة حارتنا، حيث لا ينتهي الطريق إلا بالعودة لأهلي، لأمي التي تنتظرني على باب البيت بعيون مليئة بالحب والدعاء.
كبرت، وأصبح كل شارعٍ له صدى خطوات أطفالي. كل صباح، أرافقهم إلى المدرسة بفرحٍ طفولي، كأنني أحلم أن أزرع لهم ذكريات جميلة في هذه الأرض المباركة. وفي رمضان، كنا نخرج معًا في ليل الضاحية الصامت، نسير سويًا نحو شارع السيد هادي نصر الله، حيث نتناول المناقيش ونتسحر على ضوء القمر.
لا أنسى عاشوراء، حين كانت المضائف تنصب، والشباب يركضون بخدمة الحسين، يرفعون الرايات بأيديهم الطاهرة وعيونهم تتطلع إلى كربلاء. كنت أرى فيهم طيف أبي عبد الله، وكأنها كانت آخر خدمة لهم قبل أن يرتقوا شهداء إلى ربهم. تركوا لي وللضاحية ذكرى عطرة لا تمحى.
وها أنا اليوم، نازحة، أقف على عتبات الذكرى، أبحث عن وطني في خيالات وأطياف الماضي. تمرّني شوارع الضاحية في المنام، تبكيني، وتحتويني. كأنني أعيش داخل حلمٍ يضيع مني كلما أفقت.
أعود لأكتب عنهم، عن حياتي التي كانت هنا، أكتب بحبرٍ ممزوجٍ بالدموع والأمل بأن أعود يومًا، لأجد ذكرياتي تنتظرني في كل زاوية.
يا ضاحيةَ الحبِّ والماضي وأسراري
يا نبضَ روحي وذكرايَ وأوطاري
رحلتُ عنكِ وقلبي فيكِ مغتربٌ
يبكي حنينًا ودمعُ الشوقِ أنهاري
كلُّ الزوايا بكتني حينَ فارقتها
وكلُّ دربٍ عليّ الدهرُ قد جارِ
في كلِّ شارعِ ذكرياتٌ أعيشُ بها
وموطنُ الحبِّ في قلبي وأنظاري
كم من شهيدٍ خطى في دربِكِ ارتحلوا
لكنّ روحَهمُ في الأرضِ آثاري
يا ضاحيتي، إنْ طالَ البعدُ عنكِ فلا
تنسى بأنَّكِ للروحِ العزاءُ الجارِ