العراق

فلسطين: قلب الأمة النابض

 

كتب رياض الفرطوسي

مقالات ذات صلة

 

في كل زمان عربي مضطرب، كانت فلسطين تتسلل إلى المتن، لا كحادثة سياسية، بل كاختبار أخلاقي، كجملة لم تكتمل في وجدان الأمة. ليست قضية “شعب” فحسب، بل قضية معنى، وجغرافيا تعلن تمردها على نسيان العالم. وكلما تصدّع النظام العربي، كان ظل فلسطين حاضراً، كأنّها القلب الذي كلما أصيب، ارتجف الجسد كله، وكلما أُهمل، أصيب الضمير الجمعي بالشلل.

 

منذ النكبة في عام 1948، حين أُعلن قيام دولة إسرائيل على أنقاض مئات القرى الفلسطينية، وتحوّل مئات الآلاف إلى لاجئين، توالت الحروب كصفعات على وجه المنطقة. الحرب الأولى عام 1948، ثم العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، فالهزيمة الكبرى في حزيران 1967، التي احتُلت فيها القدس والضفة الغربية والجولان وسيناء. تبعتها حرب 1973 التي أعادت شيئاً من التوازن العسكري دون أن تحسم المسألة سياسياً.

 

وفي كل هذه المحطات، لم تكن فلسطين موضوعًا جانبياً، بل كانت نقطة الارتكاز التي تدور حولها لغة النظم ومعارك الشعوب. حتى غزة الصغيرة، تلك المساحة الموصومة بالحصار، دخلت وحدها في حروب متتالية: 2008، 2012، 2014، 2021، وآخرها في 2023، دون أن تتغير خارطة الاحتلال، وكأنما تدور في مدار الدم وحده.

 

لكن ما يؤكد مركزية هذه القضية ليس صوت الفلسطيني وحده، بل ما قاله كبار الاستراتيجيين الغربيين أنفسهم. هنري كيسنجر، أحد أبرز مهندسي السياسة الخارجية الأمريكية (وزير الخارجية بين 1973 و1977)، أقرّ مراراً بأن الشرق الأوسط لا يمكن أن يعرف استقراراً حقيقياً من دون حل عادل ونهائي للقضية الفلسطينية. وفي كتابه الأخير القيادة: ست دروس في الاستراتيجية العالمية (2022)، عاد ليؤكد أن “الصراع العربي الإسرائيلي هو المحور الذي تشكلت حوله معادلات القوة والضعف في المنطقة، وأن أي محاولة لعزل هذا الصراع عن قضايا الأمن الإقليمي مصيرها الفشل.”

 

منظمة التحرير الفلسطينية، التي تأسست في عام 1964 خلال القمة العربية في القاهرة، لم تكن إلا محاولة أولى لتأطير النضال الفلسطيني ضمن كيان سياسي. كان أحمد الشقيري أول رئيس لها، بتأييد قوي من الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي رأى فيها تعبيراً عن مركزية فلسطين في الضمير العربي، وخطاً دفاعياً أمام المشروع الصهيوني. دعمه العاهل السعودي الملك فيصل بن عبد العزيز، والملك حسين بن طلال في الأردن، وبدأت المنظمة بشعارات التحرير الشامل، قبل أن تدخل لاحقاً في دهاليز الانقسام العربي، وتفقد كثيراً من بريقها نتيجة الفساد السياسي والصراعات الداخلية.

 

في خضم هذا التشظي، وقف الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة وحده، ليقول كلمة كُتب عليها أن تُرفض قبل أن تُفهم. ففي خطابه التاريخي بمدينة أريحا عام 1965، دعا العرب إلى “قبول قرار تقسيم فلسطين لعام 1947، كخطوة أولى نحو السلام”، مؤكدًا أن “التفاوض لا يعني الاستسلام، بل اختيار المعركة السياسية بدلًا من الخسارات المتكررة.” كانت كلماته صادمة لعقلٍ عربي لا يرى في التفاوض إلا خيانة. خرجت التظاهرات ضده، ومنهم من رماه بالحجارة، لكن بعد نصف قرن، تبين أن الرجل لم يكن يتنكر لفلسطين، بل كان يحذر من طوفان الهزائم القادمة.

 

ثم جاءت اتفاقية كامب ديفيد (1978) بين مصر وإسرائيل، وأتبعها اتفاق أوسلو (1993) بين منظمة التحرير وإسرائيل، لتؤسس لمنطق “السلام مقابل السلام”، دون أن تتحقق العدالة المرجوة. لا الحروب حسمت المعركة، ولا التسويات أرست السلام. ظل الوضع معلقاً، والمشهد الفلسطيني يزداد تعقيداً: انقسام بين فتح وحماس، حصار خانق في غزة، استيطان يتسع في الضفة، وتهويد ممنهج في القدس.

 

ووسط هذا المشهد، ظن كثيرون أن فلسطين يمكن أن تُؤجَّل، أن تُركن في زاوية التاريخ ريثما تُحل قضايا الداخل. لكنهم كانوا ينسون أن فلسطين ليست حدثاً خارجياً، بل قلب الداخل العربي ذاته. من القاهرة التي صاغت خطاب المقاومة، إلى بيروت التي دفعت الثمن باهظاً، إلى بغداد التي احتضنت الفصائل، إلى دمشق التي لعبت بورقة الممانعة ثم احترقت بها… كل عاصمة عرفت ذاتها – أو فقدتها – عبر مرآة العلاقة مع فلسطين.

 

ولم يكن الانفجار العربي في بدايات “الربيع العربي” بعيداً عن هذه الحقيقة. فالأنظمة التي تاجرت بالقضية، ورفعتها شعاراً لشرعياتها المهترئة، لم تكن تقف معها حقاً، بل تستثمر فيها. وحين سقط القناع، كانت فلسطين نفسها تُساءَل: هل لا تزال توحد العرب؟ أم أنها أُرهقت من كثرة ما حُمّلت؟

 

لكن الجواب ظل ثابتاً: فلسطين ليست خياراً، بل قدر. ليست قضية فضل، بل جوهر مصيري. لأنها، ببساطة، قلب الأمة. والذين يسعون إلى بناء شرق أوسط “مستقر” دونها، يضعون أساساً من رمل. فهذه الأرض، إن أُهملت، عادت لتصفعنا. وإن أُسكِتت، صرخت في وجوهنا.

 

فما من مشروع عربي نهض، إلا وكانت فلسطين شريكة في صعوده. وما من نكسة حلت، إلا وكانت شاهدة على سقوطه. وهكذا، تبقى القضية الأكثر صدقًا في كشف ملامح الأمة: إن سارت نحو العدل، كانت فلسطين بوصلتها. وإن ارتبكت، كانت أول من يُترك خلف الركب.

 

أما أولئك الذين يسألون: “لماذا لا نضعها جانباً، لنرتب بيتنا الداخلي؟”، فليعلموا أن البيت الذي يُبنى على إنكار قلبه، مصيره أن ينهار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى