حرب الفرص
كتب رياض الفرطوسي
في اللحظات التي يتجه فيها العالم إلى متابعة تطورات الحرب بين إسرائيل وإيران، يبدو أن هناك لاعباً صامتاً يتحرك على رقعة الشطرنج بخفة الثعالب وبُعد نظر الدبلوماسيين الكبار: فلاديمير بوتين. لا الطائرات الروسية حلّقت، ولا حاملة طائرات صينية رست، لكن الدخان الكثيف فوق طهران وتل أبيب يعيد رسم المشهد الدولي بطريقة تخدم الكرملين أكثر مما تخدم أي طرف مباشر في النزاع.
منذ اندلاع المواجهة المفتوحة، بدا جلياً أن موسكو لا تنوي أن تُستدرَج إلى تحالف عسكري مباشر مع طهران، رغم ما أبدته من تعاطف لفظي بعد الضربات الإسرائيلية. فالتصريحات الغاضبة التي خرجت من الخارجية الروسية لم تكن سوى ورقة في لعبة التوازن، إذ يعرف بوتين جيداً أن الحياد الذكي قد يفتح له أبواباً موصدة في الغرب.
فجأة، تحوّلت الأزمة الإيرانية الإسرائيلية إلى فرصة ذهبية لبوتين كي يُعيد طرح نفسه لاعباً لا غنى عنه. لم ينتظر طويلًا حتى أجرى اتصالات متوازنة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب. هكذا، في لحظة عاصفة، أصبح بوتين هو الوحيد الذي يتحدث مع الجميع.
في الخلفية، تبدو الصين شديدة الحذر، تراقب وتوازن مصالحها النفطية والتجارية من دون أن تغرق في مستنقع التصريحات. لكن بوتين، الذي يعلم كيف تتحرك أسواق النفط، لم يضيّع وقتاً. فالهجوم الإسرائيلي، الذي تجنّب البنية التحتية الكبرى لتصدير النفط الإيراني، أثار هلعاً في الأسواق، ما رفع الأسعار وأنعش خزينة روسيا المنهكة من حرب أوكرانيا.
الكرملين يدرك أن واشنطن، في هذه اللحظة، غارقة في نزع فتائل صراع يهدد بتوسيع رقعة التوتر في الشرق الأوسط. فكل اشتباك جديد يعني للبيت الأبيض ارتفاعاً في أسعار النفط، وتوتّراً في صفوف الحلفاء، وتآكلًا إضافياً في صورة الحضور الأمريكي كضامن للاستقرار. وفيما تنشغل الولايات المتحدة بإعادة ضبط مواقفها، تظهر موسكو، بعلاقاتها المتشعبة مع طهران وتل أبيب، كمرشح مثالي للعب دور الوسيط. وهذا تماماً ما يريده بوتين: أن يُستدعى إلى الطاولة حين تزداد الفوضى، لا لأنه يرفع صوته، بل لأنه يُجيد الصمت حين يتكلم الجميع.
التحالف بين موسكو وطهران لطالما كان تحالف الضرورة لا الإخلاص. فقد تردّدت روسيا طويلًا في تزويد إيران بمقاتلات سو-35 رغم التفاهمات، ولم تتورّط في دعم عسكري مباشر بعد اغتيال الحاج قاسم سليماني، أو حتى بعد العقوبات القصوى الأمريكية. وحتى بعد توقيع معاهدة “الشراكة الاستراتيجية الشاملة” بين بوتين وبزشكيان في يناير، لم يُسجَّل تحوّل جذري في السياسة الروسية نحو إيران.
وبينما يتقدّم الدخان من منشآت الغاز الإيرانية، ويتراجع التصدير النفطي، يدرك الجميع أن هناك يداً خفية تتلاعب بمصير الجغرافيا السياسية. إسرائيل لا تريد حرباً طويلة، وإيران تحاول تحمّلها، وأمريكا لا تملك رفاهية توسع الحريق، لكن روسيا، بكل تناقضاتها، تبدو المستفيدة الأكبر.
لقد تحولت الضربة على مصنع طائرات “شاهد” الإيرانية في أصفهان إلى ضربة جزئية لآلة الحرب الروسية في أوكرانيا، إذ إن موسكو تعتمد بشكل واسع على تلك الطائرات في هجماتها الليلية. لكن في ميزان الكرملين، هذه خسارة قابلة للامتصاص إذا ما كانت النتيجة تعزيز حضور روسيا في الشرق الأوسط كوسيط لا كخصم.
المثير أن بوتين، الذي رفض عرضاً سخياً من إدارة ترامب الشهر الماضي لإنهاء حرب أوكرانيا مقابل اعتراف غير مباشر بسيطرته الحالية، بدا وكأنه يعرف أن الأحداث ستمنحه شيئاً أثمن: تراجع تركيز الغرب على كييف. فكلما اشتعلت بقعة جديدة من العالم، انخفضت حرارة الاهتمام بأوكرانيا، وكلما زاد حضور روسيا كدولة لا يمكن تجاهلها.
هكذا، وبينما تتراشق إسرائيل وإيران بالصواريخ، يكتب بوتين سطوراً جديدة في كتاب الصبر الاستراتيجي. لا حاجة له لتدخّل مباشر، ولا رغبة حقيقية لديه في إدانة فعلية لأي طرف. كل ما يحتاجه الآن هو أن يستمر العالم في الاعتقاد بأنه جزء من الحل، لا جزء من الأزمة. ومن خلف الستار، تستمر روسيا في جني مكاسب من كل جبهة مشتعلة، طالما أنها لا تحترق بنارها.
هذه ليست حرباً بالوكالة فقط، بل سوقاً مفتوحة للفرص. وفيما ينهمك الكبار في معاركهم، يصنع الأذكياء أمجادهم من رمادها، ويصوغون نفوذهم من صمت ما بعد العاصفة.