العراق

وعي الدولة وضمير الجمهور

 

 

كتب رياض الفرطوسي

 

حين تشتدّ العواصف، لا يكفي أن تقف الدولة وحدها على السد، بل لا بد أن يكون الجمهور واقفاً معها، مدركاً حجم التحدي، ومستوعباً دقة اللحظة، ومتيقناً أن كل خطوة تُنجَز على طريق البناء، ليست مكسباً للحكومة فحسب، بل هي حجر أساس في بيت الجميع.

 

لقد دخلت منطقتنا طوراً جديداً من الاضطراب. صواريخ الفرط الصوتية، الضربات الجوية، تهديدات الردع النووي، كل ذلك لم يعد يحدث في نشرات الأخبار البعيدة، بل بات يتنفس على حدودنا، ويتسلل في ليلنا. ومع كل هذا الجنون الذي يحاصر العراق من الجهات الأربع، فإن قرار الدولة كان واضحاً: لن ننجرّ، ولن نتورط، ولن نُستخدم.

 

وإن كان يُحسب للحكومة العراقية أنها أدركت، مبكراً، أن مواجهة هذا المحيط المشتعل لا تكون بالشعارات ولا بالاصطفافات الطائفية أو الإقليمية، بل بتقوية الداخل، فإن ما لا يقل أهمية عن هذا الموقف، هو أن يرقى الجمهور إلى مستواه، وأن يُدرك أن ما يُبنى اليوم من استقرار وإنجاز، هو رصيدٌ عام، لا ينبغي التفريط به.

 

فالدول لا تُبنى بالحكومات وحدها، بل بضميرٍ شعبي واعٍ، يتجاوز لغة التشكيك والمهاترات، ليقرأ بعينٍ مفتوحة ما يجري على الأرض: مصانع تُفتتح، مشاريع تُتابع، اتفاقيات تُوقّع، وخطط اقتصادية تُفعّل رغم الرياح العاتية. لا نقول إن كل شيء على ما يرام، ولكن من الإنصاف أن نرى النصف الممتلئ من الكأس، لأنه هو الذي يُروينا في النهاية.

 

لقد كان صوت العراق، في عزّ اشتعال الجبهات الإقليمية، صوتاً متزناً، لا يخذل القضايا الكبرى كفلسطين، ولا ينخرط في مغامرات لا تحمد عقباها. كان الصوت الحريص لا المحايد، العاقل لا المفرّط. وكان ذلك يحتاج إلى شجاعة من نوع خاص؛ شجاعة الدولة التي ترفض أن تكون ساحةً لتصفية الحسابات، وشجاعة القيادة التي تؤمن أن التنمية في زمن الأزمات، ليست ترفاً، بل فعل مقاومة.

 

لكن… هل تكفي شجاعة الدولة وحدها؟

لا.

 

يجب أن يترافق ذلك مع وعي الجمهور. الجمهور الذي يُدرك أن حروب العصر ليست فقط بالسلاح، بل بالفتنة، وبالإعلام المضلل، وبإطلاق الشائعات التي تزعزع الثقة، وتحوّل الشك إلى قناعة، والفراغ إلى غضب. في هذا النوع من الحروب، تُخترق الدول من الداخل، وتُفكك معنويات شعوبها قبل جيوشها، وتُرسم الهزائم عبر القنوات وليس في الميادين.

 

من هنا، فإن دعم الحكومة اليوم لا يذهب نحو استعراض القوة، بل يُوجَّه بعقلانية نحو المؤسسات المعنية بالتنمية والاستثمار وتعزيز الأمن الوطني، بوصفها الركائز الحقيقية لتحصين ما أُنجز حتى الآن. فالمصانع التي أُقيمت، والمدارس التي شُيّدت، والبنى التحتية التي بدأت تنهض من رماد الإهمال، تحتاج إلى بيئة آمنة، ومؤسسات قوية، وإدارة واعية، تحفظها من الهدر، وتحميها من العبث، وتصونها من أي تهديد داخلي أو خارجي. إن ما تقوم به الدولة ليس ترفاً مؤقتاً، بل استراتيجية عميقة لحماية المستقبل، لأن أعظم ما يُمكن الدفاع عنه، هو ما تمكّنا من بنائه بالفعل.

 

والأهم من كل شي ، أن يبقى العقل يقظاً. فالحكومة، التي تدير الأزمات بهدوء، وتفتتح المشاريع وسط النيران، وتتابع ملف التنمية بجِدّ، إنما تبني لشعبها مشروعاً وطنياً يستحق أن يُحتضن لا أن يُحاصر. ونحن، كمجتمع، لا يمكن أن نطلب من الدولة أن تكون ناجحة، ونحن نُقابل النجاح بالتقليل، والإنجاز بالتشكيك، والخطوة إلى الأمام، بالشدّ إلى الوراء.

 

إنّ من يتابع المشهد بدقة، يُدرك أن العراق اليوم يقف على تخوم مرحلة جديدة، حيث لا مجال للحياد الكسول، ولا للمواقف الرمادية، ولا للعبث بمفردات الوعي الوطني. فمن المؤلم أن تُبنى مدارس وتُخرّبها الشائعات، أن تُزرع مشاريع وتُحاصرها الألسن، أن تتقدم الدولة خطوة ويُسحب الجمهور خطوتين إلى الوراء، بسبب الغفلة أو التضليل.

 

من هنا، يجب أن يكون هناك تجديد للخطاب العام، وتفعيل لوسائل التوعية، وإطلاق حملات إعلامية تُعيد ثقة الناس بما يُنجز، وتشرح لهم — بلغة الحياة اليومية — كيف أن الاستثمار، والصناعة، والتقنيات الحديثة، ليست عناوين في نشرات الأخبار، بل ضمانات للغد، وأمنٌ وطني بحلة اقتصادية.

 

كما أن الرهان على الزراعة، والاكتفاء الغذائي، والاستقلال في إنتاج التكنولوجيا، لم يعد ترفاً نظرياً، بل صار ضرورة إستراتيجية في عالم يتجه نحو صراعات مائية وغذائية وتقنية. في عالم كهذا، من لا يُنتج غذاءه، ويُصنّع سلاحه، ويُخطط لتقنياته، سيظل تابعاً، مهما ارتفعت شعارات السيادة.

 

إن ما تفعله الحكومة اليوم، بكل ما له وما عليه، هو محاولة صادقة لبناء عراقٍ مختلف، لا يعيش في ظل الأزمات، بل يبني وسطها. عراق يُعيد لذاته كرامتها، لا عبر العسكرة، بل عبر الكفاءة. ولا عبر التبعية، بل عبر الشراكة المتوازنة.

 

وحتى نصل إلى هذا العراق، لا بد أن يكون هناك عقلٌ جمعي جديد، لا يرى الدولة مجرد كيان إداري، بل مشروعاً مصيرياً. عقلٌ يُدرك أن الوعي لا يقلّ أهمية عن البنية التحتية، وأن قوة الجمهور، هي ما يجعل من قرارات الحكومة راسخة وفاعلة.

 

في هذا المفصل التاريخي، لا خيار أمامنا إلا أن نُكمل البناء، وأن نحرسه بعيوننا، وأن نُسنده بوعينا. فليس المهم فقط أن تملك الدولة رؤية، بل أن يُدرك الجمهور قيمتها، وأن يربط بينها وبين مستقبله، ومستقبل أولاده.

 

هكذا فقط تُبنى الأوطان. لا بالقرارات وحدها، ولا بالشعارات، بل بشراكة يقظة بين وعي الدولة وضمير الجمهور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى